أعادت واقعة بلاغ السرقة المُقدَّم من سيدة الأعمال المصرية، نوال الدجوى، رئيسة مجلس أمناء جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب، واحدة من أكثر القضايا حساسية فى الاقتصاد المصرى، إلى الواجهة، وهى امتلاك المواطنين احتياطيات ضخمة من العملات المحلية والأجنبية والذهب خارج الإطار الرسمى، وهو الجهاز المصرفى، بعكس توجه الدولة، التى تسعى الى تعزيز الشمول المالى، مما أثار حالة من الجدل المجتمعى بشأن تضخم ثروة الدكتورة نوال الدجوى،وكذلك مدى شيوع ظاهرة تخزين العملات المحلية والأجنبية خارج البنوك، خاصة فى وقت تواجه فيه البلاد أزمة حادة فى توافر العملات الأجنبية، وتجابه تحديًا حقيقيًا للسيطرة على سعر الصرف.
وإذا تطرقنا للحديث عن حجم النقد المتداول خارج الجهاز المصرفىنجد أنه طبقًا للبيانات المنشورة بمعرفة البنك المركزى المصرى، نلاحظ وجود قفزة فى حجم النقد المتداول خارج القطاع المصرفىبنحو 15.66%، خلال الربع الأول من 2025؛ ليسجل 1.297 تريليون جنيه بنهاية مارس 2025، مقارنة بـ 1.121 تريليون جنيه بنهاية 2024.
وهو ما يعادل نحو 40% من المعروض النقدى فى السوق المصرية،والذى بلغ 3.209 تريليون جنيه فى نهاية مارس 2025 (يشمل المعروض النقدى النقد المتداول خارج الجهاز المصرفى+ الودائع الجارية بالعملة المحلية).
وقد كشفت هذه الحادثة عن وجود شريحة كبيرة من الأفراد،تفضل الاحتفاظ بالسيولة النقدية خارج البنوك، خصوصًا إذا كانت هذه السيولة تتضمن عملات أجنبية وذهبًا، وهذا يمثل تحديًا كبيرًا لجهود الدولة فى مجال الشمول المالى،كما أن ذلك يؤثر سلبًا على سعر الصرف والاستقرار النقدى،ويمكن سرد بعض أسباب حدوث ذلك فيما يلى:
1- رغبة بعض أصحاب الأعمال فى عدم إظهار حجم تعاملاتهم النقدية الحقيقية أمام أجهزة الدولة، وأهمها مصلحة الضرائب وغيرها من الجهات المعنية (متطلبات الإفصاح)؛ لذا فهم يتعاملون فى عمليات البيع والشراء بشكل نقدى، دون اللجوء إلى حسابات بنكية، وهو ما يمكن أن طلق عليه «الاقتصاد الموازى غير الرسمي».
2- طبيعة التعاملات التجارية الكبيرة، التى تتطلب سيولة مالية فورية، بالإضافة إلى وجود صفقات غير معلنة تحتاج إلى سرعة ومرونة مالية، لا توفرها القنوات البنكية التقليدية، فى ضوء القيود على عمليات السحب والإيداع.
3- فى ظل التحديات الاقتصادية، التى تشهدها مصر، كارتفاع معدلات التضخم، وتقلبات أسعار الصرف، والقيود المفروضة على التعاملات المصرفية، يجد بعض الأشخاص فى هذا الأسلوب وسيلة لعلاج التضخم، من خلال اقتناء عملات أجنبية أو كميات كبيرة من الذهب، والتى تُعد أصولًا آمنة فى أوقات الاضطراباتالاقتصادية.
4- الأفراد والشركات، الذين لديهم التزامات مالية بالعملات الأجنبية، مثل سداد قروض أو دفعات مستحقة لموردين أجانب، يفضلون الاحتفاظ بالعملات الأجنبية فى متناول اليد لتجنب أى تأخير أو تعقيدات.
5- القيود المفروضة على سحب العملات الأجنبية من البنوك، سواء بسبب نقص السيولة الدولارية أو السياسات النقدية المتبعة، دفعت الأفراد إلى تفضيل الاحتفاظ بالعملات الأجنبية فى المنازل؛لضمان توافرها عند الحاجة.
6- هناك أسباب نفسية وسلوكية قديمة عند بعض الأفراد، والذين لا يفضلون البنوك فى تعاملاتهم، ويفضلون الاحتفاظ بالنقد طرفهم بالمنازل؛ لعدم الثقة فى البنوك، رغم قوة القطاع المصرفىالمصرى، وقدرته على مواجهة جميع الأزمات بشكل ناجح، خلال السنوات الماضية.
7- إن العملاء فى البنوك المصرية يواجهون سلسلة من التحديات اليومية، تبدأ من الازدحام الشديد والطوابير الطويلة، وتمتد إلى الإجراءات البيروقراطية المرهقة، حتى فى أبسط المعاملات، كما أن كثيرًا من المواطنين يضطرون إلى تقديم مستندات وإثباتاتمتعددة لإجراء تحويل بسيط، أو لسحب مبالغ مالية من حساباتهم، مع ما يصاحب ذلك من توتر وشك فى أن النظام المصرفى لا يعمل لمصلحتهم.
8- رغم الحديث المتكرر عن التحول الرقمى، تعانى الخدمات الإلكترونية البنكية أعطالًا متكررة وضعفًا فى الأداء، ما يدفع الكثيرين للعودة إلى الفروع التقليدية.
9- القيود المشددة على التحويلات الدولية تجعل من البنوك جهة طاردة لا جاذبة للمزيد من التعاملات فى وقت تتعاظم فيه الحاجة إلى خدمات مالية أكثر مرونة.
فى الأخير نجد أن هذه الممارسات لا تتماشى مع متطلبات الشمول المالى، وكذلك تنطوى على مخاطر قانونية كبيرة، لا سيما إذا كانت هذه الأموال مرتبطة بأنشطة تجارية غير مشروعة أو غير رسمية، كالتهرب الضريبى أو غسيل الأموال أو عمليات الإرهاب؛ مما قد يعرِّض أصحابها لعقوبات قانونية مشددة، طبقًا لمواد القانون المصرى.
كما أرى ضرورة وجود دور قوى للحكومة المصرية فى هذا الشأن من خلال ما يلي:
• يجب على الحكومة تبنى خطاب واضح وشفاف يؤكد أمان الأموال فى البنوك، مع تقديم ضمانات ملموسة للمودعين.
• الإفصاح عن الإجراءات، التى تتخذها الدولة لحماية الودائع وتعزيز السيولة.
• أن تعمل الحكومة على استقرار سوق الصرف وتوفير العملات الأجنبية بشكل كافٍ؛ لتلبية احتياجات السوق، وتبسيط إجراءات السحب والإيداع فيما يتعلق بالعملات الأجنبية؛ مما يقلل من الحاجة إلى الاحتفاظ بالعملات فى المنازل.
• أهمية تحفيز المواطنين والشركات على إيداع أموالهم فى البنوك، من خلال تقديم حوافز استثمار أوتخفيضات ضريبية؛ مما يعزز النشاط الاقتصادى،ويُحفِّز بيئة الأعمال.
• أن تنفى الحكومة بشكل قاطع أى شائعات حول وجود أزمة فى سحب الأموال من البنوك، مع تقديم بيانات واضحة تثبت استقرار النظام المصرفى.
• العمل بشكل مستمر على تسهيل وتبسيط رحلة العميل داخل البنوك المصرية، والتى أصبحت تعانى كثيرًا المشاكل والتعقيدات أحيانًا، والإجراءات الكثيرة وضياع الكثير من الوقت؛ مما يسبب الإحجام عن الذهاب إلى البنوك.
• تعزيز التوجه نحو التحول الرقمى، وتحويل العديد من الخدمات إلى خدمات يمكن تنفيذها إليكترونيًا، دون الذهاب الى فرع التعامل.
• توفير قروض المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر فىالبنوك ومؤسسات التمويل بأسعار فائدة مُيسَّرة يزيد شريحة المتعاملين مع البنوك، ويقلل من فرص وجود مشروعات غير رسمية لا تملك عنها الدولة أية معلومات.
• عمل برامج توعية شاملة للأفراد توضح مزايا التعامل مع البنوك، وخطورة الاحتفاظ بنقد محلى أو أجنبى خارج الجهاز المصرفى.